الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في النساء والأدعياء وما قيل في ذلك من الشعر ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين فإن أخبارهم حدائق مونقة ورياض زاهرة لما فيها من كل طرفة ونادرة فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة دانية القطوف من جاني ثمرتها قريبة المسافة لمن طلبها. فإذا تأملها الناظر وأصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع ومرتعاً للنظر وسكناً للروح ولقاحاً للعقل وسميراً في الوحدة وأنيساً في الوحشة وصاحباً في السفر وأنيساً في الحضر. قال أبو الطيب اليزيدي: أخذ رجل ادعى النبوة أيام المهدي فأدخل عليه فقال له: أنت نبي قال: نعم. قال: وإلى من بعثت قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد ساعة بعثت وضعتموني في الحبس. فضحك منه المهدي وخلى سبيله. أدعى رجل النبوة بالبصرة. فأتي به سليمان بن علي مقيداً فقال له: أنت نبي مرسل قال: أما الساعة فإني نبي مقيد. قال: ويحك من بعثك قال: أبهذا يخاطب الأنبياء يا ضعيف والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة قال: نعم الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها. فضحك سليمان: فقال له: أنا أطلقك وأمر جبريل فإن أطاعك آمنا بك وصدقناك. قال: صدق الله " فضحك سليمان وسأل عنه فشهد عنده أنه ممرور فخلى سبيله. قال ثمامة بن أشرس: شهدت المأمون أتي برجل أدعى النبوة وأنه إبراهيم الخليل. فقال المأمون: ما سمعت أجرأ على الله من هذا. قلت: أكلمه قال: شأنك به. فقلت له: يا هذا إن إبراهيم كانت له براهين. قال: وما براهينه قلت: أضرمت له نار وألقي فيها فصارت برداً وسلاماً فنحن نضرم لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك برداً كما كانت على إبراهيم آمناً بك وصدقناك. قال: هات ما هو ألين علي من هذا. قال: براهين موسى. قال: وما كانت براهين موسى قال: عصاه التي ألقاها فصارت حية تسعى تلقف ما يأفكون وضرب بها البحر فانفلق وبياض يده من غير سوء. قال: هذا أصعب. هات ما هو ألين من هذا. قلت: براهين عيسى. قال: وما براهين عيسى قلت: كان يحيي الموتى ويمشي على الماء ويبرئ الأكمه والأبرص. فقال: في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى. قلت: لا بد من برهان. فقال ما معي شيء من هذا قد قلت لجبريل: إنكم توجهونني إلى شياطين فاعطوني حجة أذهب بها إليهم وأحتج عليهم. فغضب وقال: بدأت أنت بالشر قبل كل شيء أذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم وقال: هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا هاج به مرار وأعلام ذلك فيه. قال: صدقت دعه. أدعى رجل النبوة في أيام المهدي فأدخل عليه فقال له: أنت نبي قال: نعم. قال: ومتى نبئت قال: وما تصنع بالتاريخ قال: ففي أي الموضع جاءتك النبوة قال: وقعنا والله في شغل ليس هذا من مسائل الأنبياء إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي. وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال المهدي: هذا ما لا يجوز. إذ كان فيه فساد الدين. قال: واعجباً لك تغضب لدينك لفساده ولا أغضب أنا لفساد نبوتي أنت والله ما قويت علي إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك. وعلى يمين المهدي شريك القاضي قال: ما تقول في هذا النبي يا شريك قال: شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني. قال: هات ما عندك قال: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل. قال: رضيت. قال: أكافر أنا عندك أم مؤمن قال: كافر. قال: فإن الله يقول: " فضحك المهدي وخلى سبيله. قال خلف بن خليفة: أدعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري وعارض القرآن. فأتى به خالد فقال له: ما تقول قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى: " فصل لربك وانحر.
إن شانئك هو الأبتر فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة. فمر به خلف بن خليفة الشاعر وقال: إنا أعطيناك العمود فصل لربك على عود وأنا ضامن عنك ألا تعود. قال: وإني لقاعد في مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد فإذا جماعة قد أحاطت برجل ادعى النبوة فقدم إلى عبد الله فقال له: أنت نبي قال: نعم. قال: وإلى من بعثت قال: وما عليك بعثت إلى الشيطان فضحك عبد الله بن خازم وقال: دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم. وقال ثمامة بن أشرس: كنت في الحبس فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر فقلت له: من أنت جعلت فداك وما ذنبك وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها. قال: جاء بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي أنا نبي مرسل. قلت: جعلت فداك معك دليل قال: نعم معي أكبر الأدلة ادفعوا إلي امرأة أحبلها لكم فتأتي بمولود يشهد بصدقي. قال ثمامة: محمد بن عتاب قال: رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل فأشرفت عليه فإذا رجل له جهارة وبنية قلت: ما قصة هذا قالوا: ادعى النبوة. قلت: كذبتم عليه. مثل هذا لا يدعي الباطل. فرفع رأسه إلي فقال: وما علمك أنهم قالوا علي الباطل قلت له: وأنت نبي قال: نعم. قلت له: ما دليلك قال: دليلي أنك ولد زنا. قلت: نبي يقذف المحصنات قال: بهذا بعثت. قلت: أنا كافر بما بعثت به. قال: ومن كفر فعليه كفره. فإذا حصاة عائرة جاءت حتى صكت صلعته قال: ما رماها إلا ابن الزانية ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: ما أردتم بي خيراً حيث طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال. ادعى رجل النبوة في أيام المأمون فقال ليحيى بن أكثم: امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبئ وإلى دعواه. فركبنا متنكرين ومعنا خادم حتى صرنا إليه وكان مستتراً بمذهبه. فخرج آذنه وقال: من أنتما فقلنا: رجلان يريدان أن يسلما على يديه. فأذن لهما ودخلا. فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره. فالتفت إليه المأمون فقال له: إلى من بعثت قال: إلى الناس كافة. قال: فيوحى إليك أم ترى في المنام أم ينفث في قلبك أم تناجى أم تكلم قال: بل أناجي وأكلمك. قال: ومن يأتيك بذلك قال: جبريل. قال: متى كان عندك قال: قبل أن تأتيني بساعة. قال: فما أوحى إليك قال: أوحى إلي أنه سيدخل علي رجلان فيجلس أحدهما على يميني والآخر عن يساري فالذي عن يساري ألوط خلق الله. قال المأمون: أشهد أن لا إله إلا الله. وأنك رسول الله وخرجا يتضاحكان. تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر ولقي ابن عياش وكان مغرماً بالشراب فقال له: أشعرت أنه بعث نبي يحل الخمر قال: إذاً لا يقبل منه حتى يبرئ الأكمه والأبرص. وأتي به عامل الكوفة فاستتابه. فأبى أن يتوب ويرجع. فأتته أمه تبكي فقال لها: تنحي ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أم موسى. وأتاه أبوه يطلب إليه أن يرجع. فقال له: تنح يا آزر فأمر به العامل فقتل وصلب. وذكر بعض الكوفيين قال: بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي إذ جاءني صديق لي فقال لي: إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة فقم بنا إليه نكلمه ونعرف ما عنده. فقمت معه: فصرنا إلى باب داره فقرعنا الباب وسألنا الدخول عليه. فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه إن كان على حق اتبعناه وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه ولم نؤذه. فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت على وجه الأرض وإذا هو أصلع فقال صاحبي وكان أعور: دعني حتى أسائله. قلت: دونك. قال: جعلت فداك ما أنت قال: نبي. قلت: ما دليلك قال: أنت أعور عينك اليمنى فاقلع عينك اليسرى حتى تصير أعمى ثم أدعو الله فيرد عليك بصرك فقلت لصاحبي: أنصفك الرجل قال: فاقلع أنت عينيك جميعاً وخرجنا نضحك. وأتى المأمون بإنسان متنبئ فقال له: ألك علامة قال: نعم علامتي أني أعلم ما في نفسك. قال: قربت علي ما في نفسي قال له: في نفسك أني كذاب. قال: صدقت وأمر به إلى الحبس. فأقام به أياماً ثم أخرجه. فقال: أوحى إليك بشيء قال: لا. قال: ولم قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس. فضحك المأمون وأطلقه. وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحاً صاحب الفلك وذكر أنه سيكون طوفان على يديه إلا من اتبعه ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه فأتى به الوالي فاستتابه فلم يتب فأمر به فصلب واستتاب صاحبه فتاب. فناداه من الخشبة: يا فلان. أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة فقال: يا نوح قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري. قال: وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ فقال: يا ثمامة ناظره. فقال: ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين. ثم التفت إلى المتنبئ فقال له: ما شاهدك على النبوة قال: تحضر لي ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك فتلد غلاماً ينطق في المهد ويخبرك أني نبي فقال ثمامة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال المأمون: ما أسرع ما آمنت به قال: وأنت يا أخبار الممرورين والمجانين قال أبو الحسن: كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه وكان راويةً للشعر بصيراً بجيده فذكر عن عبد الله بن إدريس صاحب الحديث قال: أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار فقال لي الخادم: هذا عليان قد هجم علينا والصبيان في طلبه. فقلت: ادفع الباب في وجوه الصبيان وأخرج إليه طعاماً وطبقاً عليه رطب مشان وملبقات وأرغفة. فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه وقال: هذا من رحمة الله وأشار إلى الطعام كما أن أولئك من عذاب الله وأشار إلى الصبيان. ثم جعل يأكل والصبيان يرجون الباب وهو يقول: " قال ابن إدريس: فلما انقضى طعامه قلت له: يا عليان ما لك تروي الشعر ولا تقوله قال: إني كالمسن أشحذ ولا أقطع. وكان بصيراً بالشعر. فقلت: أي بيت تقوله العرب أشعر قال: البيت الذي لا يحجب عن القلب. قلت: مثل ماذا قال: مثل قول جميل: ألا أيها النوام ويحكم هبو أسائلكم هل يقتل الرجل الحب قال: فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع. ثم قال: ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له قلت: وماذا قال: مثل قول الشاعر: ندمت على ما كان مني فقدتني كما ندم المغبون حين يبيع ثم قال أتستطيب قوله " فقدتني " بالله يا بن إدريس قلت: بلى. فضرب بيده على فخذي وقال: قم شيب الله قرنك. وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة. وحكى عنه عبد الله بن إدريس قال: مررت به في مربعة كندة وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص وهو يخط بها في الرماد فقلت له: ما تصنع هاهنا يا بن أبي مالك قال: ما كان يصنع صاحبنا. قلت: ومن صاحبك قال: مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع قال: أما سمعته يقول: عشية ما لي حيلةٌ غير أنني بلقط الحصى والخط في الدار مولع قلت: ما سمعته. فرفع رأسه إلي متضاحكاً فقال: أما يقول الله عز وجل " قلت: يا بن أبي مالك متى تقوم القيامة قال: ما المسؤول عنها بأعلم سائل غير أنه من مات فقد قامت قيامته. قلت له: فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال: إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا فإن الله لطفاً لا يدرك. قلت: ما تقول في النبيذ حلال أم حرام قال: حلال. قلت: أتشربه قال إن شربته فقد شربه وكيع وهو قدوة قلت: أتقتري بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه وأنا أسن منه قال: إن قول وكيع ما اتفاق أهل البلد عليه أحب إلي من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك. قلت: فما تقول في الغناء قال: قد غنى البراء بن عازب وعبد الله بن رواحة وسمع الغناء عبد الله بن عمر وكان عبد الله بن جعفر. قلت له: أيشٍ كان عبد الله بن جعفر إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان. وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة ولف عليها خرقة لئلا يؤذي بها الناس فكان إذا أحرده الصبيان التفت إلى الخياط وقال له: قد حمي الوطيس وطاب اللقاء فما ترى فيقول: شأنك بهم فيشد عليهم ويقول: أشد على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها فإذا أدرك منهم صبياً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته فيتركه وينصرف ويقول: عورة المؤمن حمى ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين. ثم يقول وينادي: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد وكانت له جارية تدعى خيزران وكان بها كلفا فمر يوماً بعليان وقد أحاط به الناس فقالوا له: هذا أبو سعيد صاحب خيزران فناداه: أبا سعيد. قال: نعم. قال: أتحب خيزران قال: نعم قال: وتحبك قال: نعم. فأنشأ يقول: نبئتها عشقت حشاً فقلت لهم ما يعشق الحش إلا كل كناس فضحك الناس من أبي سعيد ومضى. ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس فقال له: يا بن أبي الزرقاء أسمنت برذونك وأهزلت دينك أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخف. فوقف ابن أبي الزرقاء. فقيل له: هو صباح الموسوس قال: ما هذا بموسوس. وقال إبراهيم الشيباني: مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا فقلت: أطعمني. قال: ليس هو لي إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها. وكان بهلول هذا يتشيع. فقيل له: اشتم فاطمة وأعطيك درهما. فقال: بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم. وقال ابن عبد الملك: يعرف حمق الرجل في أربع: لحيته وشناعة كنيته وإفراط شهوته ونقش خاتمه. فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال: أما هذا فقد أتاكم بواحدة فانظروا أين هو من الثلاث. فقيل له: ما كنيتك قال: أبو الياقوت. قيل: فنقش خاتمك قال: " قيل: أي الطعام تشتهي قال: خلنجبين. وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي: يا أبا العمرين فقال: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما. وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به: لا تتهم الله في قضائه. قال: أقول لك شيئاً على الأمانة قال: قل. قال: والله ما بي غيره. ودخل أبو عتاب على عمرو بن هداب وقد كف بصره والناس يعزونه فقال له: أبا زيد لا يسوءك فقدهما فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك. ودخل على قوم يعود مريضاً لهم فبدأ يعزيهم. قالوا: إنه لم يمت. فخرج وهو يقول: يموت إن شاء الله يموت إن شاء الله. ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام قال: لولا أنك أبي وأنك أسن مني لعرفت. أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال: كان الغاضري من أحمق الناس فقيل له: ما رأيت من حمقه فسكت. فلما أكثر عليه قال: قال لي مرة: البحر من حفره وأين ترابه الذي خرج منه وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام ودخل رجل من النوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته فقال: أيكما الشعبي فقال: هذه. فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان هل يؤجر قال: إن كان قال لك: يا أحمق فإني أرجو له. وسأل رجل آخر الشعبي فقال: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في الصلاة في أنفه فخرج عليها دم أترى له أن يحتجم قال الشعبي: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. وقال له آخر: كيف كانت تسمى امرأة إبليس قال: ذاك نكاح ما شهدناه. العتبي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بشراً يقول: كان في زمن المهدي رجل صوفي وكان عاقلاً عالماً ورعاً فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الإثنين والخميس فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة. فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون أليسوا في أعلى عليين فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية. فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع ونزعت فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام. فقال: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام قد فتحت الفتوح ووسعت الفيء وسلكت سبيل الصالحين وعدلت في الرعية وقسمت بالسوية اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه. فيقول له: خلطت في تلك الست السنين ولكن الله تعالى يقول: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم ". وعسى من الله موجبة. ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه. فيقول: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن فأنت الوصي وولي النبي بسطت العدل وزهدت في الدنيا واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي. فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة وأنت الذي جعل الخلافة ملكاً واستأثر بالفيء وحكم بالهوى واستنصر بالظلمة وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض أحكامه وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام. فقال له: يا قواد أنت الذي قتلت أهل الحرة وأبحث المدينة ثلاثة أيام وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآويت الملحدين وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثلت بشعر الجاهلية: وقتلت حسينا وحملت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر والياً بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: هاتوا عمر. فأتى بغلام فأجلس بين يديه فقال: جزاك الله يا عمر خيراً عن الإسلام فقد أحييت العدل بعد موته وألنت القلوب القاسية وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق. اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: بلغ أمرنا إلى بني هاشم ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً. ومن مجانين الكوفة: عيناوة وطاق البصل. قيل لعيناوة: من أحسن أنت أو طاق البصل قال: أنا شيء وطاق البصل شيء. وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق. وكان عيناوة جيد القفا فربما مر به من يعبث فيصفعه فحشا قفاه خراء وقعد على قارعة. فإذا صفعه أحد قال: شم يدك يا فتى فلم يصفعه أحد بعد ذلك. ووعد رجل رجلاً من الحمقى أن يهدي له نعلاً حضرمية فطال عليه انتظارها فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال: انظر في هذا الماء إن كان يهدي إلي بعض إخواني نعلاً حضرمية. وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة فقفد عيناوة فتىً كانت أرضعته مجيبة فقال له لما وجده: كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك فوالله لقد زقت لي فرخاً فما زلت أرى الرعونة في طيرانه. ومن المجانين هبنقة القيسي وجرنفش السدوسي واسم هنبقة يزيد بن ثروان وكنيته أبو نافع وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل. فسئل عن ذلك فقال: أما أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله! وشرد بعير له فجعل بعيرين لمن دل عليه فقيل له: أتجعل بعيرين في بعير قال: إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته. وافترس الذئب له شاة فقال لرجل: خلصها من الذئب وخذها فإن فعلت فأنت والذئب واحد. وسام رجل هبنقة بشاة فقال: اشتريتها بستة وهي خير من سبعة وأعطيت فيها ثمانية وإن أردتها بتسعة وإلا فزن عشرة. وكان باقل الذي يضرب به المثل في العي اشترى شاة بأحد عشر درهما فسئل: بكم اشتريت الشاة ففتح يديه جميعاً وأشار بأصابعه وأخرج لسانه ليتم العدد أحد عشر. ولما قرب الفرزدق رأس بغلته من الماء قال له الجرنفش: نح رأس بغلتك حلق الله شأفتك. قال: لماذا عافاك الله قال له: لأنك كذوب الحجرة زاني الكمرة فصاح الفرزدق. يا بني سدوس فاجتمعوا إليه. فقال: سودوا الجرنفش عليكم فما رأيت فيكم أعقل منه. قال الأصمعي: سوبق بين الجرنفش وهنبقة أيهما أجن وأحمق. فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص وجاء هنبقة بحجارة ثقال وترس فبدأ الجرنفش فقبض على حجر ثم قال: دري عقاب بلبن وأشخاب. ثم رفع صوته وقال: الترس فرمى الترس فأصابه فانهزم هنبقة فقيل له: لم انهزمت فقال إنه قال: الترس. فرمى الترس فلم يخطئه فلو أنه قال العين ورماها أما كان يصيب عيني. وتبع داود بن المعتمرة امرأة ظنها من الفواسد فقال لها: لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك فضحكت المرأة وقالت: إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير فأما إذ صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان. ووقع داود هذا بجارية فلما أمعن في الفعل قال لها: أثيب أم بكر فقالت له: سل المجرب. قالت أم غزوان الرقاشي لابنها وهو يقرأ في المصحف: يا غزوان لعلك تجد في هذا المصحف حماراً كان أبوك في الجاهلية فقده. فقال: يا أماه. بل أجد فيه وعداً حسناً ووعيداً شديداً. ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرة كأنها مدهن عاج. فقال له: يا شيخ مجانين القصاص قال أبو دحية القاص: ليس في خير ولا فيكم. فتبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني. وقال في قصصه يوماً: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج. قالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. وقال ثمامة بن أشرس: سمعت قاصاً ببغداد يقول: اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين. ووقع الذباب على وجهه فقال: ما لكم كثر الله بكم القبور. قال: ورأيت قاصاً يحدث الناس بقتل حمزة فقال: ولما بقرت هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو ازدردتها ما مسها النار. ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
مالك بن زيد مناة بن تميم دخل على امرأته ناجية مغضباً فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت له: ضع شملتك. قال: جسدي أحفظ لها. قالت: اخلع نعليك. قال: رجلاي أحق بهما. فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه. فلما شم رائحة الطيب وثب ومن النوكى عجل بن لجيم. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرساً في حلبة فجاء سابقاً فقال لأبيه: كيف ترى أن أسميه يا أبت قال: افقأ إحدى عينيه وسمه الأعور. قال الشاعر: رمتني بنو عجل بداء أبيهم وأي عباد الله أنوك من عجل أليس أبوهم عار عين جواده فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل ومن بني عجل دغة التي يضرب به المثل في الحمق. وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الأمثال. ومن نوكى الأشراف: عبيد الله بن مروان عم الوليد بن عبد الملك. بعث إلى الوليد قطيفة حمراء وكتب إليه: إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء حمراء فكتب إليه قد وصلت القطيفة وأنت والله يا عم أحمق أحمق. ومنهم معاوية بن مروان وقف على باب طحان فرأى حماراً يدور بالرحا في عنقه جلجل فقال للطحان: لم جعلت الجلجل في عنق الحمار قال: ربما أدركتني سآمة أو نعاس فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به فانبعث. قال: أفرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا - وحرك رأسه - فقال له: ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير وهو القائل وضاع له بازي: اغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي. وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا: مات جارك أبو فلان فمر له بكفن. فقال: ما عندنا اليوم شيء ولكن عودوا إلينا إذا نبش. وأقبل إليه رجل أحمق منه فقال له: تعيرنا أصلحك الله ثوباً نكفن فيه ميتاً قال: أخشى أنه ينجسه فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر. ومن النوكى الأشراف: عيينة بن حصن دخل على عثمان بغير إذن وكانت عنده ابنته فقال له عثمان: ألا استأذنت قال: ما ظننت أن هنا من أحتاج أن أستأذن عليه. قال: ادن فتعش. فقال: أنا صائم. قال: تصوم الليل وتفطر النهار. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه السفيه المطاع. ومن حمقى قريش: أبان بن عثمان بن عفان. قال الشعبي: قدم أبان على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين زوجني ابنتك. قال: يا بن أخي هما اثنتان. إحداهما عند ابن عامر والأخرى عند أخيك عمرو. قال: كنت أظن أن لك ثالثة. قال: يا بن أخي تخطب إلي ولا تدري لي بنت أم لا رحم الله أباك. ومر معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه فقال: ما كذب من قال: كل حقل لا ترى آست صاحبها لا تفلح أبداً. ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب. وهو الذي يقول لأبي امرأته: ملأتني البارحة ابنتك دماً. قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن فلو كنت خصياً ما زوجناك وعلى الذي غرنا بك لعنة الله. وكان أبو العاج والياً بواسط فأتاه صاحب شرطته بقوادة فقال: ما هذه قال: قوادة. قال: وما تصنع قال: تجمع بين الرجال والنساء قال: إنما جئتني بها لتعرفها بداري خل عنها لعنك الله ولعنها. وكان الربيع العامري والياً باليمامة فأتي بكلب قد عقر كلباً فأفاده فقال فيه الشاعر: شهدت بأن الله حقاً لقاؤه وأن الربيع العامري رقيع أقاد لنا كلباً بكلب فلم يدع دماء كلاب المسلمين تضيع وقال عوانة: أستعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده النار. فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي. وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من بني عتاب بن أسيد كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. وكان الآخر يضحي عن أبي بكر وعمر ويقول: أخطأ السنة في ترك الأضحية وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة ويقول: غلطت رحمها الله في صومها أيام التشريق. ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج. فلما رآه وقد استجاد لعبه قال له: يا أمير المؤمنين ولني نهر بوق. فقال له: ويلك أوليك نصفه. اكتبوا عهده علي بوق. قال: فولني أرمينية. قال: إذا يبطئ على أمير المؤمنين خبرك. أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر. فقالوا له: بل في ستة أيام. فقال: والله لقد قلتها وأنا أستقلها. وخطب علي بن زياد الإيادي فقال في خطبته: أقول لكم ما قال العبد الصالح لقومه: " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". فقالوا له: إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون. فقال: من قاله فقد أحسن. وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال: أقول لكم كما قال الله في كتابه: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وخطب والٍ باليمامة فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي. وقد أهلك أمة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم فسمي مقوم الناقة. وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودعوه وهو يريد مكة حاجاً فقال: لا تبكوا فإني ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له: أين القبلة في دارك هذه فقال: إنما سكناها منذ ستة أشهر. ودخل كردم السدوسي على رجل فدعاه إلى الغذاء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت قال: قليل أرز فأكثرت منه. وقيل لأبي عبد الملك عناق: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام بن سليمان أبي المنذر قال: لأنه لما مات سلام بن سليمان أبو المنذر مشى أبو علي في جنازته فلما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته. ومرض كردم فقال له عمه: أي شيء تشتهي فقال: رأس كبشين قال: لا يكون. قال: فرأسي كبش قال: لا يكون. فقال: لست أشتهي شيئاً. وقال مسعدة بن طارق الذراع: إن لوقوف على حدود دار نقسمها إذ أقبل عيص سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم. ونحن في خصومة لنصلح بينهم فقال: خبروني عن هذه الدار هل ضم بعضها إلى بعض أحد فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازاً. وأقبل كردم الذراع إلى قوم ليكسر لهم دوراً فوجد داراً منها فيه زنقة. فقال: ليست هذه الدار لكم فقالوا: بلى والله ما نازعنا أحد قط فيها. قال: فليست الزنقة لكم. قالوا: فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة. فكسر صحن الدار. فقال: عشرون في عشرين مائتان. قالوا: من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا إذ عشرون في عشرين مائتان. وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها فالتمسها في كتابه فلم يجدها. فقال: لم يمت هذا الرجل بعد ولو مات لوجدت فريضته في كتابي. وعزى قوماً فقال: آجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم. فقيل له في ذلك فقال مثل قول مروان بن الحكم: بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم. وكان أبو إدريس السمان يكتب: فلا أصحبك الله إلا بالعافية ولا حيا وجهك إلا بالكرامة. العتبي قال: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه فرجع إليه مضروباً فقال: ما لك ويلك قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني قال: هن الحمار في حر أم الذي أرسلك. قال له: دعني من افترائه علي. أخبرني أنت كيف جعلت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر أمي هلا قلت: أير الحمار في هن أم من أرسلك وقال أبو نواس: قلت لأحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني: أيما أسن أنت أم أخوك قال: إذا جاء رمضان استوينا. قال ثمامة بن أشرس للمأمون: مررت في غب مطر والأرض ندية والسماء مغيمة والريح شمال وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة وقد قعد على قارعة الطريق وحجام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه فقلت: يا شيخ لم تحتجم في هذا البرد قال: لهذا الصفار الذي بي. وقيل لأبي عتاب: كيف برك بأمك قال: والله ما قرعتها بسوط قط. النوكى من نساء الأشراف دغة العجلية وجهيزة وشولة ودراعة وسارية الليل وريطة بنت كعب وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً. وفيها يقال في المثل: " خرقاء وجدت صوفة ". وقال عمرو بن عثمان: شيعت القاضي عبد العزيز بن المطلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول: أرق عيني ضراط القاضي. فقال لي: يا أبا حفص أتراها تعني قاضي مكة وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله كما قالوا: رب رمية من غير رام. قيل لدغة: أي بنيك أحب إليك قالت: الصغير حتى يكبر والمريض حتى يفيق والغائب ومن أخبار أهل العي المشبهين بالمجانين: دخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد ليشتري طعاماً من طعامهم فقال لها: قد رأيت متاعك وقلبته. قالت له: هلا قلبت طعامك يا أبا طالب قال: وقد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب ألست قد قلبت الشعير فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسداً. قال الأصمعي: كان بين رجلين من النوكى عبد فقام أحدهما يضربه فقال له شريكه: ما تصنع قال: أنا أضرب نصيبي منه. قال: وأنا أضرب حصتي فيه وقام فضربه. فكان من رأي العبد أن سلح عليهما وقال: اقتسما هذه على قدر الحصص. ومر بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي فقال لها: ما هذا الميت منك قالت: زوجي. قال: وما كان عمله قالت: كان يحفر القبور قال: أبعده الله أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها. وطلب رجل من النوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالاً ويؤخره به. فقال: هاتان حاجتان وأنا أقضي لك إحداهما. قال: رضيت. قال: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك. وكان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم مع بله فيهم وعي شديد - فمن ذلك أن امرأة أبي رافع رأته في نومها بعد موته فقال لها: أتعرفين فلاناً الصيرفي قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر وسألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط. فأقبلت إلى مسجد المدينة فوجدت مشايخ من آل أبي رافع كلهم مقبول القول جائز الشهادة فقصت عليهم الرؤيا وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع. قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه. فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤديها قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير ونعم الصلح الشطر فأد إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صلحاً على المائتي دينار التي ادعاها أبو رافع علي في نومها وأنها قد أبرأتني منها وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى فيدعي علي بغير هذه المائتين فتجيء بفلان وفلان يشهدان علي لها. فلما سمعوا الوثيقة فطن القوم لأنفسهم وقالوا: قبحك الله وقبح ما جئت به. ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير أتي بعطائه وهو في المسجد فقام ونسيه في موضعه فلما صار إلى بيته ذكره فقال: يا غلام ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد. قال: وأين يوجد وقد دخل المسجد بعدك جماعة قال: وبقي أحد يأخذ ما ليس له وسرقت نعله مرة فلم يلبس نعلاً بعدها حتى مات وقال: أكره أن أتخذ نعلاً فيجيء من يسرقها فيأثم. وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني: في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه ولا أقبل شهادته. قال الأصمعي: كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته وله حمار يرعى حول الصومعة فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى فرفع يديه إلى السماء فقال: يا رب لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري وما كان يشق علي. فهم به نبي كان فيهم في ذلك الزمان فأوحى الله إليه دعه فإنا أثيب كل إنسان على قدر عقله. هشام بن حسان قال: أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: ما تقول في رؤيا رأيتها قال: وما رأيت قال: كنت أرى أن لي غنماً فكنت أعطى بها ثمانية دراهم فأبيت من البيع ففتحت عيني فلم أر شيئاً فأغلقتهما ومددت يدي وقلت: هاتوا أربعة فلم أعط شيئاً. فقال له ابن سيرين: لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها. قال: يمكن الذي ذكرت. منهم أبو ياسين الحاسب وجعيفران وجرتفش وأبو حية النميري وريسيموس وصالح بن شيرزاذ الكاتب. وكان أبو حية أجن الناس وأشعر الناس وهو القائل: ألا حي أطلال الرسوم البواليا لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يوم وليلةٌ تقاضاه أمر لا يمل التقاضيا وهو القائل أيضاً: فلأبعثن مع الرياح قصيدةً مني مغلغلةً إلى القعقاع ترد المناهل لا تزال غريبةً في القوم بين تمتعٍ وسماع وهو القائل أيضاً: فأبدت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كفٍ ومعصم وأما جعيفران الموسوس الشاعر وهو من مجانين الكوفة فإنه لقي رجلاً فأعطاه درهماً وقال له: قل شعراً على الجيم. فقال: عادني الهم فاعتلج كل هم إلى فرج سل عنك الهموم بال كاس والراح تنفرج ما جعفرٌ لأبيه ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير فكلهم يدعيه هذا يقول بنيي وذا يخاصم فيه والأم تضحك منهم لعلمها بأبيه قال أبو الحسن: استأذن جعيفران على بعض الملوك فأذن له وحضر غداؤه فتغدى معه فلما كان من الغد استأذن فحجبه ثم أتاه في الثالثة فحجبه. فنادى بأعلى صوته: عليك إذنٌ فإنا قد تغدينا لسنا نعود وإن عدنا تعدينا يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها داءً بقلبك ما صمنا وصلينا العتبي قال: قال أبو وائل لأبي: إن في حماقةً ولكن إن طلبت الشعر وجدت عندي منه علما. قال: وهل تقول منه شيئاً قال: نعم أقول أجود من قولك وأنا الذي أقول: لو أن جومل كلمتني بعدما نسيت نوائحي البكاء وأقبر لحسبت ميت أعظمي سيجيبها أو أن باليها الرميم سينشر قال له أبي: أما الشعر فحسن إلا أن اسم المرأة قبيح. قال: ألا إن اسم المرأة جمل ولكنني ملحته بجومل. فقال له: إن هذا من الحماقة التي برئ إلينا منها. ما أوجع البين من غريب فكيف إن كان من حبيب يكاد من شوقه فؤادي إذا تذكرته يموت فقال له أبي: إن هذا باء وهذا تاء. قال: لا تنقط أنت شيئاً. قلت: يا هذا إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع. قال: أنا أقول لا تنقط وهو يشكل. ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب أخي الحسن بن وهب دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاذ بشعر يرثيها فيه فأنشده: لأم سليمان علينا مصيبةٌ مغلغلة مثل الحسام البواتر وكنت سراج البيت يا أم سالم فأمسى سراج البيت وسط المقابر فقال سليمان: ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي ماتت أمي ورثيت بمثل هذا الشعر ونقل اسمي من سليمان إلى سالم. ومن قول صالح بن شيرزاذ هذا: لا تعدلن دواء بالفساء فإن كان الضراط فذاك الآذريطوس ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع وحوله بنوه فاستأذنه في الذنه في الإنشاد فاستعفى. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده شعراً فلما انتهى فيه إلى قوله: قال له: ليتك تركتنا رأساً برأس. وقيل: وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت ومدحه ببيتين فقال له: والله ما تركت قافيةً لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك. قال: سأقول غير هذا. فغدا عليه بشعر يقول فيه: هل تعرف الدار لأم الغمر دع وحبر مدحةٌ في نصر فقال له نصر: لا ذا ولا ذاك. وقال بعض العلماء: ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من المجانين مجانين أهل مكة في الشعر فإنه قال: ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل: بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل فزعموا أن هذه أسماء رجال منهم. قال بعض أهل الأدب: قلت له: وما عندك أنت فيه قال: البيت بيت الله والزرارة الحجر زررت حول البيت ومجاشع زمزم تجشعت بالماء وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة. قلت له: فنهشل قال: نهشل وفكر فيه ساعة ثم قال: قد أصبته هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك النهشل. قال المبرد محمد بن يزيد النحوي: خرجنا من بغداد نريد واسطا فملنا إلى دير هزقل ننظر في المجانين فإذا بالمجانين كلهم قد رأونا ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه وجلس ناحية الله يعلم أنني كمد لا أستطيع أبث ما أجد نفسان لي نفس تضمنها بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها صبر وليس يفوقها جلد وأظن غائبتي كشاهدتي بمكانها تجد الذي أجد فقلت له: أحسنت والله. فأوما بيده إلى شيء ليرمينا به. وقال: أمثلي يقال له أحسنت. قال: فولينا عنه هاربين. فقال: أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت وإن أسأت قلتم لي: أسأت. قال: فرجعنا ووقفنا وقلنا له: قل فأنشأ يقول: لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ورحلوها وسارت بالدجى الإبل وقلبت من خلال السجف ناظرها ترنو إلي ودمع العين ينهمل وودعت ببنان عقده عنم ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل ويلي من البين ما ذا حل بي وبها من نازل البين حل البين وارتحلوا يا راحل العيس عرج كي نودعهم يا راحل العيس في ترحالك الأجل إني على العهد لم أنقض مودتهم يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا وقال محمد بن يزيد المبرد: دخلنا دير هزقل فإذا بمجنون بيده حجر وقد تفرق الناس عنه وهو يقول: يا معشر إخواني اسمعوا مني. ثم أنشأ يقول: وذي نفس صاعد يئن بلا عائد يكر على جحفل ويضعف عن واحد وأنشد أبو العباس لماني الموسوس: له وجنات في بياض وحمرة فحافاتها بيض وأوساطها حمر رقاق يجول الماء فيها كأنها زجاج أجيلت في جوانبها الخمر وقال محمد بن يزيد: أصابتنا سحابة جود ثم أقلعت سريعاً فمر بي ماني الموسوس فقال: لا تظن الذي جرى مطراً كان ممطراً إنما ذاك كله دمع عيني تحدرا وتوالت غيومها من همومي تفكرا هكذا حال من يرى من حبيب تغيرا وقف ماني الموسوس على أبي دلف فأنشده: كرات عينك في العدا تغنيك عن سل السيوف وقال أبو دلف: والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت وأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبضها وقال: نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة. ولماني الموسوس: من الظباء ظباء همها السحب ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب أفدى الظباء اللواتي لا قرون لها وحليها الدر والياقوت والذهب يا حسن ما سرقت عيني وما انتهب والعين تسرق أحياناً وتنتهب فتلك من حسن عينيها وهبت لها قلبي لو قبلت مني الذي أهب وما أريدهما إلا لرؤيتهما فإن تأبت فما لي فيهما أرب إذا يدٌ سرقت فالحد يقطعها والحد في سرق العينين لا يجب ومر علي بن الجهم بمبرسم قد اجتمع الناس عليه وتحلقوا حوله فلما رآه المبرسم قصد نحوه وأخذ بعنانه ثم أنشأ يقول: لا تحفلن بمعشر ال همج الذين أراهم فوحق من أبلى بهم نفسي ومن عافاهم لو قيس موتاهم بهم كانوا هم موتاهم هذا السعيد لديهم قد صار بي أشقاهم قال أبو البختري الشاعر: كان يبلغني أن ببغداد مجنوناً يكنى أبا فحمة له بديهة حسنة فتعرضت له فأتيح لي لقاؤه في بعض سكك بغداد فقلت له: كيف أصبحت أبا فحمة فأشنأ يقول: أصبحت منك على شفا جرفٍ متعرضاً لموارد التلف وأراك نحوي غير ملتفت متحرفاً عن غير منحرف يا من أطال بهجره كلفي أسفي عليك أشد من كلفي قال أبو البختري: فأخرجت له قبضة نرجس كانت في كمي فحييته بها فجعل يشمها ملياً ثم أنشأ يقول: لما تزوجت الجنوب بهاطل جون هتون زبرج دلاح أضحى يلقحها بوسمي الصبا فاستثقلت حملاً بغير نكاح حتى إذا حان المخاض تفجرت فأتت بولدان بلا أرواح حاك الربيع لها ثياباً وشيت بيد الندى وأنامل الأرواح من أصفر في أزهر قد زانه تبر على ورق من الأوضاح قال الحسن بن هانئ: لقيت ماني الموسوس فأنشدني: شعر حي أتاك من لفظ ميت صار بين الحياة والموت وقفاً قد برت جسمه الحوادث حتى كاد عن أعين البرية يخفى لو تأملتني لتبصر شخصي لم تبين من المحاسن حرفا ثم مضيت فأتيت جعيفران الموسوس وهو شيخ من بني هاشم أرت اللسان وعليه قيد من فضة وفي عنقه غل من ذهب فقال لي: من أين دببت يا حسن قلت: من بيت مانويه. فقال: في حر أم مانويه! فدعا بدواة وقرطاس وقال لي اكتب: ما غرد الديك ليلاً في دجنته إلا حثثت إليك السير مجهودا ولا هدت كل عين لذ راقدها بنومة في لذيذ العيش ممهودا إلا امتطيت الدجى شوقاً إليك ولو أصبحت في حلق الأقياد مصفودا أسعى مخاطرةً بالنفس يا أملي والليل مدرع أثوابه السودا فلم ترق ولم ترث لمكتئب زودته حرقات القلب تزويدا هيهات لا غدر في جن ولا بشر إلا يخال معداً فيك موجودا يلطم وجهه ويبكي وينادي: أيها الناس الفراق مر المذاق. فقلت له: أبا محمد من أين أقبلت قال: شيعت الحاج. قلت: وما الذي حملك على تشييعهم فقال: لي فيهم سكن. قلت: فهل قلت فيهم شيئاً قال: نعم وأنشدني: هم رحلوا يوم الخميس غديةً فودعتهم لما استقلوا وودعوا فلما تولوا ولت النفس معهم فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع إلى جسد ما فيه لحم ولا دم وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع وعينان قد أعماهما الحزن والبكا وأذن عصت عذالها ليس تسمع أبو بكر الوراق قال: حدثني صديق لي قال: رأيت رجلاً من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة وخلفه دابة له تدور معه فاستوقفته وقلت له: يا فلان ما حالك وأين النعمة قال: تغير قلبي فتغيرت النعمة. قلت: بم تغير قال: بالحب ثم بكى وأنشأ يقول: أرى التحمل شيئاً لست أحسنه وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه أم كيف صبر محب قلبه دنف الهجر ينحله والشوق يحزنه وإنه حين لا وصلٌ يساعفه يهوى السلو ولكن ليس يمكنه وكيف ينسى الهوى من أنت همته وفترة اللحظ من عينيك تفتنه فقلت: أحسنت والله. فقال: قف قليلاً فوالله لأطرحن في أذنيك أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل وأنشد: للحب نارٌ على قلبي مضرمة لم تبلغ النار منها عشر معشار الماء ينبع منها من محاجرها يا للرجال لماء فاض من نار ثم وقف وأنشد: أعاد الصدود فأحيا الغليلا وأبدى الجفاء فصبراً جميلا ورد الكتاب ولم يقره لئلا أرد إليه الرسولا وأحسب نفسي على ما ترى ستلقى من الهم هجراً طويلا وأحسب قلبي على ما أرى سيذهب مني قليلاً قليلا ثم ترك يدي ومضى. وحكى أبو العباس المبرد قال: دخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش. قال: فسلمت. فرد وعرض علي الأكل. فقلت: ما أريد شيئاً هنأك الله يا أمير المؤمنين فلقد باكرت بالغداء فإني بت جائعاً. ثم أطرق ورفع رأسه وهو فلا تكن سابري العرض محتشما من القليل فلست الدهر محتفلا ودعا برطل ودخل رجل من أجلة الفقهاء فمد يده إليه فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقنيها شيخاً. فرد يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه وقال: كنت يا أمير المؤمنين الله الله إني عاهدت الله في الكعبة إلا أشربها أبداً. ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها. ثم قال: ردا علي الكأس إنكما لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت إلا بدمعكما من الوجد خوفتماني الله ربكما وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي خوف العقاب شربتها وحدي محمد بن يزيد الأسدي قال: حدثني حبيب بن أوس قال: كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت السحر أيام الخريف فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها وقد احمر جلده من برد الماء وإذا ماني الموسوس يرمقه ببصره فلما خرج من الماء قال: خمش الماء جلده الرطب حتى خلته لابساً غلالة خمر قلت له: لعنك الله يا ماني أبعد الجهاد والغزو تخمش غلاماً قد بات مؤاجرا في الحمامات فقال لي: مثلك يخاطب يا أحمق وإنا يخاطب هذا وأشار إلى السماء وقال: يكفيك تقليب القلوب وإنني لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي خلقت وجوهاً كالمصابيح فتنة وقلت اهجروها عز ذلك من خطب فإما أبحت الصب ما قد خلقته وإما زجرت القلب عن لوعة الحب أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال: أيا رب تخلق ما تخلق وتنهى عبادك أن يعشقوا إذا هكذا صغت حسن الوجوه فأي البرية لا يفسق خلقت الملاح لنا فتنة وقلت اعبدوا ربكم واتقوا وقال أبو بكر الموسوس في نصراني: أبصرت شخصك في نومي تعانقني كما تعانق لام الكاتب الألفا يا من إذا درس لإنجيل ظل له قلب الحنيف عن القرآن منصرفا وله فيه: زناره في خصره معقود كأنه من كبدي مقدود أخبار البخلاء أجمع الناس على بخل أهل مرو ثم أهل خراسان. قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج ويثير الحب إليها ويلطف بها إلا في مرو فإني رأيته يأكل وحده فعلمت أن لؤمهم في المآكل. ورأيت فيمرو طفلاً صغيراً في يده بيضة فقلت له: أعطني هذه البيضة فقال: ليس تسع يدك. فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب والجبلة المفطورة. واشتكى رجل مروزي ضرراً من سعال فدلوه على سويق اللوز فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الألم حتى أتيح له بعض الموفقين فدله على ماء النخالة وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب ماءها فجلا صدره. ووجده بعضهم فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لأم عياله: اطبخي لأهل بيتنا النخالة فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر. فقالت له زوجته: قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء. وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل فقلت: ما بال هذا العود مربوطاً فقال: هذا عود قد شرب الدهن فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة. قال: فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال: أبا فلان فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى وهو عند إسراجك الليلة أعطش قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة فإن الحديد أبقى وهو مع ذلك غير نشاف والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها وربما كان ذلك سبباً لإطفائها. قال الخراساني: ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين. قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الخزامي واسمه عبد الله بن كاسب ونحن في العسكر إن الشيب سهك وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة والطيب غال ممتنع الجانب فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا. وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها واعلموا أن أعدى عدو له المملوح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشرها فإن الباقلاء تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته. ومن البخلاء هشام بن عبد الملك. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام. فأطرفته وحدثته. فقال: سل حاجتك فقلت: يا أمير المؤمنين تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا وقال: فيم ولم وبم ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين ألا لا يا بن صفوان ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك. فأنت والله كما قال أخو خزاعة: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه صنيعة قربى أو صديق توافقه منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ولم يفتلتك المال إلا حقائقه قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له قلت: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي فمر براهب في دير فعدل إليه فأدخله الراهب بستاناً له وجعل يجتني له أطيب الفاكهة. فقال له هشام: يا راهب بعني بستانك. فسكت عنه الراهب. ثم أعاد عليه فسكت عنه. فقال له: ما لك لا تجيبني فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: لماذا ويحك قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: ما سمعت ما قال هذا قال: والله إن لقيك حر غيره. ومن البخلاء: عبد الله بن الزبير وكانت تكفيه أكلة لأيام ويقول: إنما بطني شبر في شبر فما عسى أن يكفيه. وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير: لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين فإن تصبك من الأيام جائحةٌ لم نبك منك على دنيا ولا دين ما زلت في سورة الأعراف تدرسها حتى فؤادك مثل الخز في اللين إن امرأ كنت مولاه فضيعني يرجو الفلاح لعندي حق مغبون وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. فقال فيه الشاعر: رأيت أبا بكر وربك غالب على أمره يبغي الخلافة بالتمر وأقبل إليه أعرابي فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل فإن أغنيت أعطيناك. قال: أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة. وأتاه أعرابي يسأله حملا ويذكر أن ناقته نقبت. فقال: انعلها من النعال السبتية واخصفها بهلب. قال الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك. قال: إن وصاحبها. ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء وعشرة من الخطباء وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق حتى لا يمتد إلي أمل آمل ولا ينبسط نحوي رجاء راج. وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام هات الغداء. وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع ويفتح على السائل باب الحرمان. ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر. قال أبو عبيدة عن جهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة فقدم إلي تمراً وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً. فأتى الغلام بالزيت. فقال له: خنتني وسرقتني. قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت. ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي. استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً فمطله بها ستة أشهر ثم قضاه درهمين وثلاث حبات. فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار وأنا بقال لا أملك مائة فلس وإنما أعيش بكدي واستقضي الحبة على بابك والحبتين صاح على بابك حمال ولا يحضر تلك الساعة وكيلك فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات. فقال زبيدة: يا مجنون أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية لأن هذه ندية وتلك يابسة وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً. قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم وكان عنده لبن كثير فسمع به رجل ظريف فقال: لا أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن تغاشى وتماوت فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع فخرج إليه صاحب اللبن فقال: ما باله يا سيدي قال: هذا سيد بني تميم أتاه أمر الله هاهنا وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه حتى أتى عليها ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة. ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا. لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل. قيل لبختى المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده. قيل لها: فما الذل قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال. والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً: " جاء فلان على غبيراء الظهر " و " جاء على حاجبه صوفة ". و " جاء بخفي حنين ". وقال أبو عطاء السندي في يزيد بن عمر بن هبيرة: ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ طلبت بها الأخوة والثناء رجعن على حواجبهن صوفٌ وعند الله نحتسب الجزاء قال الأصمعي: كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه: هل تغذيتم اليوم فإن قالوا نعم قال: والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا: لا قال: لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله فلا يصير في أيديهم منه شيء. وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت. وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة. ثم يقول: كيف كان شربكم للماء فإن قال أحدهم: كثيراً قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير. وإن قالوا قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلاً. وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ". ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج فغطى الطبق بذيله وأدخل رأسه في جيبه وقال للرجل الداخل: أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري. وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذاً من دجاجة فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد. فقال ابنه الأكبر: يا أبت لا تؤاخذنا وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هارون فأطلنا الحديث حتى أضر به الجوع فدعا بغذائه فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم لا تحز فيها سكين ولا تؤثر فيه الضرس فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة ففقد الرأس فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس قال: رميت به. قال: لم قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذاك فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه والرأس رئيس الأعضاء وفيه الحواس الخمس ومنه يصيح الديك وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء فيقال: شراب مثل عين الديك. ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله انظر أين هو قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك. وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاماً فثقل عليه ذلك. فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه فجمعوا وكشف عن الطعام فإذا طعام له بالٌ فندم على الإرسال للمساكين وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان. وقال: دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية وقوم يأكلون عنده فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه وجعل يرطله بيده ويقول: يزعمون أن خبزي صغير فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه قال: ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة والقوم يأكلون وقد رفع بعضهم يده فمددت يدي لآكل فقال أجهز على الجرحى لا تتعرض للأصحاء يقول: تعرض للدجاجة التي قد نيل منها والفرخ المنزوع الفخذ فأما الصحيح فلا تتعرض له. فهذا معناه في الجرحى. وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل فقال: أما مائدته فمقببة وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها قال: الكرام الكانبون. قال: فمن يأكل معه قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته قال: جعلت فداك والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل. أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال: يهجوا ابن الأغلب: لو أن قصرك يا ابن أغلب كله إبر يضيق بهن رحب المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ليخيط قد قميصه لم تفعل وقيل لحصين: أتغديت عند فلان قال: لا ولكني مررت به يتغدى. قيل: فكيف علمت أنه يتغدى قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء. وقال أبو الحارث جمين: دخلت على فلان فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت. وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. قال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. وخرج وهو يقول: وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وقال آخر: ولو عليك اتكالي في الغداء إذا لكنت أول مقتول من الجوع يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً صوت ضعيف وداع غير مسموع قال المدائني: كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة جدي. يوضع على مائدته بعد الطعام لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر. فحضر مائدته أعرابي فبسط يده وأسرع في الأكل. فقال: يا أعرابي إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك. فقال له الأعرابي: أصلحك الله وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه فقال: خذها فإنها بيضة العقر. فلم يحضر طعامه بعد ذلك. ودخل أشعب على والي المدينة فحضر طعامه وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر فبدر إليه أشعب فمزقه فقال له: يا أشعب إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم فإن في ذلك أجراً. فقال: والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله. قال عمرو بن ميمون: تغديت يوماً عند الكندي فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي فلم يعرض عليه الطعام ونحن نأكل فاستحيت أنا منه فقلت: سبحان الله لو دنوت فأصبت معنا. قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً. قال: ومررت ببعض طرق الكوفة فإذا أنا برجل يخاصم جارا له. فقلت: ما بالكما فقال أحدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً فاشتريته له وتغدينا فأخذت عظامه فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس. قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما فاشتروا له وأمر بطبخه حتى تهرأ فأكل منه حتى انتهت نفسه وشرعت إليه عيون ولده فقال: ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله. فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا قال: لست بصاحبه. فقال الأوسط: أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً وأسفه سفاً قال: أنت صاحبه وهو لك دونهم. وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها ويسميها العرس لما فيها من الألوان الطيبة وربما سماه الكامل والجامع ويقول: الرأس شيء واحد وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة والرأس فيه الدماغ وطعمه مفرد وفيه العينان وطعمهما مفرد والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها مفرد على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان وطعمه مفرد والخيشوم والغضروف ولحم الخدين وكل شيء من هذه طعمه مفرد. والرأس سيد البدن والدماغ هو معدن العقل وخاصة الحواس وبه قوام البدن وفيه يقول الشاعر إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري وقيل لأعرابي: أتحسن أن تأكل كل الرأس قال: نعم أبخص عينيه وأفك لحييه وأسحى ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إيام ونهم الصبيان وبغر السباع وأخلاق النوابح ونهش الأعراب وكل ما بين يديك فإنما حظك منه ما قابلك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف من لقمة كريمة أو مضغة شهية فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل ولست بواحد منهما. وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر. أي بني لا تخضم خضم البراذين ولا تدمن الأكل إدمان النعاج ولا تلقم لقم الجمال ولا تنهش نهش السباع وعود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى. واعلم أن الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم والسقم داعية الموت ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه وقاتل نفسه ألأم من غيره. أي بني والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة ولا خشع لله ذو بطنة والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين. أي بني لأمر ما طالت أعمار الرهبان وصحت أبدان الأعراب ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء كله هو في فضول الطعام فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح الدين والدنيا والقرب من عيش الملائكة أي بني ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات فافهم تأديب الله وتأديب الرسول. أي بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب ولا عرفت وكف أنف ولا سيلان عين ولا سلس بول وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك. ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر فقالت: السلام عليك قال أبو الأسود كلمة مقبولة. ووقف عليه أعرابي وهو يأكل فقال الأعرابي: أدخل قال: وراءك أوسع لك. قال: الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليهما يبردان. قال: أتأذن لي أن آكل معك قال: سيأتيك ما قدر لك. قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا أنك نسيت. ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه. فقال أبو الأسود: يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه. قال: كرهت أن أدعها للشيطان. قال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها. الأصمعي قال: قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي وهو يقول: من يعشي الجائع فقال أبو الأسود: علي به فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع فلما أكد ذهب ليخرج قال: أين تريد قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك اطرحوه في الأدهم فبات عنده مكبولًا حتى أصبح. قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة فأخلى له المنزل ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه ثم رجع وكتب له: يأيها الخارج من بيته وهارباً من شدة الخوف ضيفك قد جاء بزادٍ له فارجع تكن ضيفاً على الضيف وقال آخر: بت ضيفاً لهشام في شرابي وطعامي وسراجي الكوكب الدر ي في داجي الظلام لا حراماً أجد الخ بز ولا غير الحرام وله: بت ضيفاً لهشام فشكا الجوع عدمته وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله فيمطله ابن المقفع فيقول: أتراني أتكلف لك شيئاً لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي فلا تتثاقل علي. فلم يزل به حتى أجابه وأتى به إلى منزله فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش فقدمه له. ووقف سائل بالباب فقال له: بورك فيك فألح في السؤال فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك. فقال ابن المقفع للسائل أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة. وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها فلما حلها وقف سائل فقال له: صنع الله لك ثم وقف ثان فقال له مثل ذلك ثم وقف ثالث فقال له مثل ذلك. فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان. فقالت له: يا أبت. ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا أم قلوا الأصمعي قال: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قروناً. البرم: الذي يأكل مع أصحابه ولا يجعل شيئاً والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين. وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف وهو القائل في ضيف نزل به وأكله: ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت وبين أخرى تليها قيد أظفور تجهز كفاح ويحدر حلقه إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل أتانا وما ساواه سحبان وائل بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه من العي لما أن تكلم باقل وله في الأضياف: لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا دسم العمائم تحيكها الشياطين ألفيت جلتنا الشهريز بينهم كأن أيديهم فيها السكاكين فأصبحوا والنوى عالي معرسهم وليس كل النوى تلقى المساكين ما قالت الشعراء في طعام البخلاء فمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب: والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك أسته وتمثل الأمثالا وقوله فيهم: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم واستوثقوا من رتاج الباب والدار قوم إذا نبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار اللاقطين النوى تحت الثياب كما مجت كوادن دهم في مخالبها فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر: أبلج بين حاجبيه نوره إذا تغدى رفعت ستوره لآخر: أبو نوح أتيت إليه يوماً فغداني برائحة الطعام وقدم بيننا لحماً سميناً أكلناه على طبق الكلام فلما أن رفعت يدي سقاني كؤوساً حشوها ريح المدام فكان كمن سقى ظمآن آلا وكنت كمن تغدى في المنام ولآخر: تراهم خشية الأضياف خرساً يصلون الصلاة بلا أذان ولحماد عجرد: حريث أبو الصلت ذو خبرة بما يصلح المعدة الفاسدة تخوف تخمة إخوانه فعودهم أكلة واحدة إذا ما تنفس حول الخوان تطاير في البيت من خفته فنحن كظوم له كلنا يرد التنفس من خشيته فيكلمه اللحظ من رقة ويأكله الوهم من قلته نزل رجل من العرب ببخيل فقد إليه جرادا فعافه وأمر برفعه وقال: لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة إليه دجوجي من الليل مظلم فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه هو العير إلا أنه يتكلم أتانا ببرقان الدبي في إنائه ولم يك برقان الدبي لي مطعم فقلت له غيب إناءك واعتزل فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال: تضيفت في برد وريح تلفني وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعدما تلفعت الظلماء من كل جانب تصلى بها برد العشاء ولم تكن تخال وميض النار يبدو لراكب سرى في جليد الليل حتى كأنما تخزم بالأطراف شوك العقارب تقول وقد قربت كوري وناقتي إليك فلا تذعر علي ركائبي فسلمت والتسليم ليس يسرها ولكنه حق على كل جانب فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي قالت معشر من محارب من المشتوين القد في كل شتوة وإن كان عام الناس ليس بناصب فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن علي مبيت السوء ضربة لازب وقمت إلى مهرية قد تعودت يداها ورجلاها حثيث المواكب إلا إنما نيران قيس إذا شتوا لطارق ليل مثل نار الحباحب وقال الخليل بن أحمد: كفاه لم تخلقا للندى ولم بك بخلهما بدعه فكف عن الخر مقبوضه كما نقصت مائة سبعه إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم وليس يبلغنا ما تنضج النار وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان: إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم جراديم أشباه النخامة تبلع تبل ختان الضيف حتى تريبه ويصبح من عين أسته يتطلع ويقريك من أكرهته من سوادهم قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع ولآخر: فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم على ميت مستودع بطن ملحد يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد ولآخر: ذهب الكرام فلا كرام وبقي العضاريط اللئام من لا يقيل ولا يني ل ولا يشم له طعام ولآخر: قد كان يعجبني لو أن غيرته على جرادقه كانت على حرمه ولآخر: إن هذا الفتى يصون رغيفاً ما إليه لناظر من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ئف في سلتين في منديل في جراب في جوف تابوت موسى والمفاتيح عند ميكائيل وقال أبو نواس في فضل الرقاشي: رأيت قدور الناس سوداً من الصلى وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ويخرج ما فيه على طرف الظفر إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها أمامهم الحولي من ولد الذر وقال في إسماعيل الكاتب: خبز إسماعيل كالوش ي إذا ما انشق يرفا عجباً من أثر الصن عة فيه كيف يخفى إن رفاءك هذا ألطف الأمة كفا ولآخر: ارفع يمينك من طعامه إن كنت ترغب في كلامه سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه ولآخر: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا لتذب عنا ولكن خفت مرزئة الذباب ولآخر: زرت امرأً في بيته مرةً له حباء وله خير يحذر أن يتخم إخوانه إن أذى التخمة محذور ويشتهي أن يؤجروا عنده بالصوم والصائم مأجور ومن قولنا في نحوه: طعام من لست له ذاكرا دق كما دق بأن يذكرا لا يفطر الصائم من أكله لكنه صوم لمن أفطرا وقال آخر: خليلي من كعب أعينا أخاكما عى دهره إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه مخافة أن يرجى نداه حزين كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ولم يدر أن المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا وفي كل معروف عليك يمين إذا جئته في حاجة سد بابه فلم تلقه إلا وأنت كمين باب من أخبار البخلاء الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء فقال له: احملني. فقال: ما كنت لأنزل وأحملك. قال: ما أنت بحاتمٍ حيث يقول: أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب قال: ما فيها محمل ولا بي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم: أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر وقال كثير عزة: مهين تلاد المال فيما ينوبه منوع إذا مانعته كان أحزما سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة فلم يقضها فتشفع إليه برجل فقضاها فقال: ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي تولى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب المجد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة فبعث إلى جار له موسر يستسلفه وكان حسن الظن به فاعتل عليه ورده فقال: لا تشعرن النفس يأساً فإنما يعيش بجد حازمٌ وبليد ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه فكل قريب لا ينال بعيد وكتب إلى آخر يستسلفه فكتب إليه: المؤونة كثيرة والفائدة قليلة والمال مكذوب عليه. فكتب إليه أبو الأسود: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً. وقال بعض الشعراء في بخيل: ميت مات وهو في كنف العي ش مقيم في ظل عيش ظليل في عداد الموتى وفي عامر الدني ا أبو جعفر أخي وخليلي لم يمت ميتة الحياة ولكن مات عن كل صالح وجميل ولآخر: فأما قراه كله فلنفسه ومال يزيد كله ليزيد ولآخر: فأما جوده فعلى النصارى وأما بأسه فعلى الكلاب ولآخر: كدحت بأظفاري وأعملت معولي فصادفت جلموداً من الصخر أملسا تجهم لما جئت في وجه حاجتي وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى فأجمعت أن أنعاه لما رأيته يفوق فواق الموت حتى تنفسا وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي: جاء بدينارين لي صالحٌ أصلحه الله وأخزاهما أدناهما تحمله ذرةٌ وتلعب الريح بأوفاهما بل لو وزنالك ظليهما ثم عمدنا فوزناهما لكان لا كانا ولا أفلحا عليهما يرجح ظلاهما ولحماد عجرد: أورق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ترى في الناس عفته حتى يقال غني وهو مجهود جاد ابن موسى من دنانيره لنا بدينارين أسرارا كلاهما في الكف من خفة لو نفخا من فرسخ طارا قلت وقلبي لهما منكر أريهما للحين قسطارا فكان هذا عنده بهرجا وكان هذا عنده بارا ثم وزنا واحداً منهما كان له القسطار مختارا فكان في كفة ميزانه ينقص قيراطاً ودينارا باب ما قيل في البخلاء سمع رجل أبا العتاهية ينشد: فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا فقال له: بخلت الناس كلهم. قال: فأردني واحداً سمحا! وقال ابن حازم: وقالوا لو مدحت فتى كريماً فقلت وأين لي بفتى كريم بلوت ومر بي خمسون عاماً وحسبك بالمجرب من عليم ولآخر: لما رآنا فر بوابه وانسد من غير يد بابه كلب له من بعضه حاجب يحجبه إن غاب حجابه ومن قولنا: جعل الله رزق كل عدوٍ لي بكف لبعض من لا أسمي كف من لا يهز عطفيه يوماً لمديح ولا يبالي بذم يتلقى الرجاء منه بوجه راشح الخد والجبين بسم جئته زائراً فما زال يشكو لي حتى حسبته سيدمي ألف اللؤم فيه من كل طرف معرقاً فيه بين خال وعم قد نهاني النصيح عنه مراراً بأبي أنت من نصيح وأمي ومن قولنا: يراعة غرني منها وميض سنىً حتى مددت إليه الكف مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا ومن قولنا: صحيفة طابعها اللوم عنوانها بالبخل مختوم أهداكها والخلف في طيها والمطل والتسويف واللوم من وجهه نحس ومن قربه رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن كنت ضيفاً له فخبزه في الجوف هاضوم تكلمه الألحاظ من رقة فهو بلحظ العين مكلوم لا تأتدم شيئاً على أكله فإنه بالجوع مأدوم احتجاج البخلاء الأصمعي: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حلاً منهم. وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم. وقال لهم أيضاً: لا تجاودوا الله فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر وقوماً لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى. وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي. وقال رجل من تغلب: أتيت رجلاً من كندة أسأله فقال: يا أخا بني تغلب إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إلي منك وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبةً طوبة. والله يا أخا بني تغلب ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس. وهذا نظير قول لآخر: من أعطى في الفضول قصر في الحقوق. وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه. قال: وما ذاك يا بن أخي قال: درهماً واحداً. قال: يا بن أخي. لقد هونت الدرهم وهو طابع الله في أرضه الذي لا يعصى والدرهم ويحك عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر الألف والألف دية المسلم. ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هونته وهل بيوت المال إلا درهم على درهم. وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك ودينك لمعادك. وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى: يلومونني في البخل جهلاً وضلةً وللبخل خير من سؤال بخيل ونظيره قول المتلمس: وحبس المال خير من بغاه وضرب في البلاد بغير زاد وقيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تنفق فإن مالك عريض قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله قال: لا ولكن أخاف ألا أموت في أوله. وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل قال: لا أعدمني الله هذا الاسم لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي واسم البخيل فيه حزم واسم السخي فيه تضييع وحمد والمال ناض نافع وكرم لأهله والحمد ريح وسخرية وسمعة وطرمذة وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعرى ظهره وضاع عياله وشمت به عدوه. وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك ومن احتاج إليك ألا يزول عنك فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك. وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك. فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر وقطع أسبابه من الشكر والمعين على الغدر شريك الغادر كما أن مزين الفجور شريك الفاجر. وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بني تعلموا الرد فإنه أسد من العطاء ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني خيرٌ له من أن يقال له سخي وهو فقير. وقال الجذامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك فما ظنك إن كان أقصر مني أليس يتخيل في قميصي! وإن كان أطول مني أليس يصير آيةً للسائلين فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي فمتى يتفق هذا وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة ونحن نريد بغداد رجل من أهل خراسان وكان من فقهائهم وعقلائهم وكان يأكل وحده فقلت له: لم تأكل وحدك فقال: ليس علي في هذا مسألة. إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف وأكلي وحدي هو الأصل وأكلي مع الجماعة تكلف ما ليس علي. ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم فجعل يقلبه ويقول: في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي شق آخر: قل هو الله أحد ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً ورقية. ورمى به في الصندوق. وكان أبو عيسى بخيلاً وكان إذا وقع الدرهم بيده طنه بظفره وقال: يا درهم كم من مدينة وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجةً. قال: وأنا لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك إلي قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال: فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة. فانصرف الرجل عنه. وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل: اسقني أتى بإناء على قدر الري أو أصغر وإذا قال: أطعمني أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة والطعام والشراب أخوان أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء. الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في منبته ألا ترى الباقلاء الأخضر أطيب من الكمثري والباذنجان أطيب من الكمأة ولكن أهل التحصيل والنظر قليل وإنما يشتهون على قدر الثمن. وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها وأعدى عدو له المالح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره فإن الباقلاء يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته فما حاجتكم أن تصيروا طعاماً إلى طعامكم الأصمعي قال: جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمت إليه بقرابة وسأله أن يعطيه فلم يعطه شيئاً ثم عاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام. فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام. فقال: معذرة إليك إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي. قال: ذلك ألأم لك عندي وأهون بشأنك علي. نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه ومات مثل يزيد ولم تعلم به يا حرسي اسفع بيده. ومن أشعار البخلاء الذين يتمثلون بها: وزهدني في كل خير صنعته إلى الناس ما جربت من قلة الشكر ولآخر: ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل ولابن هرمة: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال. وقولهم: كلام الليل يمحوه النهار وقولهم: بروق الصيف كاذبة الرعود رسالة سهل بن هارون في البخل بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله أمركم وجمع شملكم وعلمكم الخير وجعلكم من أهله. قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب وقبيح أن تنهى مرشداً وأن تغري بمشفق وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم. ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ". فما كان أحقكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يراد به فخراً لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا. عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين فهو أطيب لطعمه وأزيد في ريعه. وقد قال عمر بن وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة ومن رطبة غريبة على عبدٍ نهم وصبي جشع وأمة لكعاء وزوجة مضيعة وليس من أصل الأدب ولا في ترتيب الحكم ولا في عادات القادة ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب التابع والمتبوع والسيد والمسود كما لا تستوي مواضعهم في المجالس ومواقع أسمائهم في العنوان ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين وعلف حماره السمسم المقشر. وعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال: طينة خير من ظنة. فأمسكتم عمن ختم على لا شيء وعبتم من ختم على شيء. وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم لحماً فليزد من الماء فمن لم يصب لحماً أصاب مرقاً. وعبتموني بخصف النعل وبتصدير القميص حين زعمت أن المخصومة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم والتفريق من التضييع والاجتماع من الحفظ. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويلطع أصابعه ويقول: لو أهدى إلي ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وقال عليه الصلاة والسلام: من لم يشبع من الحلال خفت مؤنته وقل كبره. وقال الحكماء: لا جديد لمن لا يلبس الخلق. وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً واشترط عليه أن يكون عاقلاً. فأتاه به موافقاً فقال له: أكنت به ذا معرفة قال: لا ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديداً فتفرست فيه العقل والأدب. وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدراً وسمى له موضعاً كما جعل لكل زماناً رجالاً ولكل مقام مقالاً. وقد أحيا الله بالسم وأمات بالدواء وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز وأمر مالك بن أنس بفرك البعر. وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن لا بد فاجعلها بيوضاً. وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي. ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدت في الأعضاء فضلاً عن الماء فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر فعبتموني بذاك وشنعتم علي. وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ. فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ. وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره وتقويس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته وأن يرى نجوه أكثر من رزقه فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه فلعله أن يكون معمراً وهو لا يدري وممدوداً له في السن وهو لا يشعر ولعله أن يرزق الولد على اليأس ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على باله ولا يدركه عقله فيسترده ممن لا يرده ويظهر الشكوى إلى من لا يرجمه أصعب ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان له أن يطلب. فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وعبتموني بأن قلت: إن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك وإن الحفظ إلى المال المكتسب والغنى المجتلب وإلى ما يعرض فيه بذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتمام القلب أسرع ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع وعبتموني أن قلت: إن كسب الحلال مضمنٍ بالإنفاق في الحلال وأن الخبيث ينزع إلى الخبث وإن الطيب يدعو إلى الطيب وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهوى فعبتم علي هذا القول وقد قال معاوية: لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله فانظروا فيماذا ينفقه فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع. وقال عمر بن الخطابرضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين وقال ابن سيرين: كيف تصنعون بأموالكم قالوا: نفرقها في السفن فإن عطب بعض سلم بعض. ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع. وعبتموني أن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكراً وللمال لثروة فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله فعبتموني بذلك وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلاً من غني أمن الفقر وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقال الشاعر: في يحيى بن خالد بن برمك. وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم لأن المال به يفاد العلم وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع. فقلتم: كيف هذا وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إني لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط وإذا قبض فاقبض. وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت أن احتيج إليها استعملت وإن استغني عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه شيء. قيل له: فما كنت تصنع به قال: لكثرة من كان يخدمني عليه لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب عدوك لكان الحظ فيه جسيماً والنفع فيه عظيماً. ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو ولستم علي تردون ولا رأيي تفندون فقدموا النظر قبل العزم وأدركوا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم والسلام عليكم. ومن اللؤم التطفيل وهو التعرض للطعام من غير أن يدعى إليه. أخبار الطفيليين أولهم طفيل العرائس وإيه نسب الطفيليون وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرساً فلا يلتفت تلفت المريب ويتخير المجالس وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس لظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة فإن كان البواب غليظاً وقاحاً فتبدأ به وتأمره وتنهاه من غير تعنف عليه ولكن بين النصيحة والإدلال. القحذمي قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى وخشب منبر الخليفة وخوان الطعام. وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: اللؤم شؤم. فقيل له: هذا رأس التطفيل. أحمد بن علي الحاسب قال: مر طفيلي بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس. فقالوا له: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك قال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة واطراحها صلة وقد جاء في الأثر: " صل من قطعك وأعط من حرمك ". وأنشد: فإذا ما رأيت آثار عرس أو دخاناً أو دعوة الأصحاب لم أعرج دون التقحم لا أر هب طعناً أو لكزة البواب مستهيناً بمن دخلت عليهم غير مستأذن ولا هياب فتراني ألف بالرغم منهم كل ما قدموه لف العقاب ومنهم أشعب الطماع قيل له: ما بلغ من طمعك قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. وفيه يقال: أطمع من أشعب. وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقاً فقال له: أسأل بالله إلا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين. فقال له: وما معناك في ذلك قال: لعله يوماً أن يهدى إلي فيه شيء. ساوم أشعب رجلاً في قوس عربية فسأله ديناراً فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشوياً بين رغيفين ما أعطيتك بها ديناراً. وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا. وأذن له فقالوا له: كيف رأيك في الحيتان فقال: والله إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان. قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك. فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا: لا ندري. قال: إنه يقول: إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته. وكان رجل من الأمراء يستظرف طفيلياً يحضر طعامه وشرابه وكان الطفيلي أكولاً شروباً فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه فكتب إليه الطفيلي: قد قل أكلي وعقل شربي وصرت من بابة الأمير فليدع بي وهو في أمان أن أشرب الراح بالكبير وأقبل طفيلي إلى صنيع فوجد باباً قد أرتج ولا سبيل إلى الوصول فسأل عن صاحب الصنيع: إن كان له ولد غائب أو شريك في سفر فأخبر عنه أن له ولداً ببلد كذا. فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه ثم أقبل متدللاً فقعقع الباب قعقعة شديدة واستفتح وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل. ففتح له الباب وتلقاه الرجل فرحاً وقال: كيف فارقت ولدي قال له: بأحسن حال وما أقدر أن أكلمك من الجوع. فأمر بالطعام فقدم إليه وجعل يأكل ثم قال له الرجل: ما كتب كتاباً معك قال: نعم ودفع إليه الكتاب. فوجد الطين طرياً. فقال له: أرى الطين طرياً قال: نعم. وأزيدك أنه من الكد ما كتب فيه شيئاً. فقال: أطفيلي أنت قال: نعم أصلحك الله. قال: كل: لا هنأك الله. وقيل لأشعب: ما تقول في ثريدة مغمورة بالزبدة مشقفة باللحم قال: فأضرب كم قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة وقيل لمزبد المديني وقد أكل طعاماً كظه: قئ. قال: أقئ خبزاً نقياً ولحم جدي امرأتي طالق: لو وجدتهما قيئاً لأكلتهما. وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام إليك قال: القريص. قيل له: ولم ذا قال: لأنه يؤخر إلى يوم آخر. ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم فسلم ثم وضع يده يأكل معهم. قالوا له: أعرفت منا أحداً قال: نعم عرفت هذا وأشار إلى الطعام. فقالوا: قولوا بنا فيه شعراً. فقال الأول: لم أر مثل سرطة ومطة وقال الثاني: ولفة دجاجة ببطة وقال الثالث: فقال الإثنان للثلث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم فما يصنع جالينوس تحت إبطه قال: يلقمه الجوارشن كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه. ومر طفيلي على الجماز فقال له: ما تأكل قال: كلب في قحف خنزير. ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون فقالوا من بغضه: سماً. فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم. ومر طفيلي على قوم كانوا يأكلون وقد أغلقوا الباب دونه فتسور عليهم من الجدار وقال: منعتموني من الأرض فجئتكم من السماء. وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين قال أربعة أرغفة. وقيل لآخر: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قال: كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر درهما. قال محمد بن أحمد الكوفي حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له بالبصرة فجمعوا وأبصرهم طفيلي فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع فانسل فدخل وسطهم ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم فدخل الزورق فقال الطفيلي: هي نزهة. فدخل معهم فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد معهم الطفيلي ثم سير بهم إلى بغداد فأدخلوا على المأمون فجعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً فيأمر بضرب رقابهم حتى وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدة فقال للموكلين: ما هذا قالوا: والله ما ندري غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك ويلك! قال: يا أمير المؤمنين. امرأته طالق إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً ولا مما يدينون الله به إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون وقال: يؤدب. وكان إبراهيم بن المهدي قائماً على رأس المأمون فقال: يا أمير المؤمنين هب لي ذنبه وأحدثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عنك يوماً فطفت في سكك بغداد متطرباً فانتهيت إلى موضع فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها فوقفت على خياط فقلت: لمن هذه الدار قال: لرجل من التجار البزازين قلت: ما اسمه قال: فلان بن فلان فنظرت إلى الدار فإذا بشباك فيها مطل فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدور وبقيت باهتاً ساعة ثم أدركني ذهني فقلت للخياط: أهو ممن يشرب النبيذ قال: نعم وأحسب أن عنده اليوم دعوة وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين فبينا أنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كناهما قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما وقلت: جعلت فداكما. قد استبطأكم أبو فلان أعزه الله وسايرتهما حتى بلغا الباب فأجلاني وقدماني فدخلنا. فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل أو قادم قدمت عليهما من موضع فرحب بي وأجلست في أفضل المواضع فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان فكان طعمها أطيب من ريحها فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها وبقي الكف والمعصم كيف أصل إلى صاحبتهما ثم رفع الطعام وجاءونا بوضوء فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل علي بالحديث وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية كأنها جان تثنى كالخيزران فأقبلت فسلمت غير خجلة وثنيت لها وسادة فجلست وأتي بالعود فوضع في حجرها فجسته فاستبنت في جسها حذقها ثم اندفعت تغني: توهمها طرفي فأصبح خدها وفيه مكان الوهم من نظري أثر وصافحها كفي فآلم كفها فمن مس كفي في أناملها عقر فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي وطربت لحسن شعرها ثم اندفعت تغني: فحدت عن الإظهار عمداً لسرها وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد فصحت: يا أمير المؤمنين: السلاح وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي ثم اندفعت فغنت الصوت الثالث: أليس عجيباً أن بيتاً يضمني وإياك لا نخلو ولا نتكلم سوى أعين تشكو الهوى بجفونها وتقطيع أنفاس على النار تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب وتكسير أجفان وكف تسلم فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء وإصابتها لمعنى الشعر وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به فقلت: بقي عليك يا جارية. فضربت بعودها الأرض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء فندمت على ما كان مني ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي فقلت: أما عندكم عود غير هذا قالوا: بلى. فأتيت بعود فأصلحت من شأنه ثم غنيت: ما للمنازل لا يجبن حزيناً أصممن أم قدم المدى فبلينا راحوا العشية روحةً مذكورة إن متن متنا أو حيين حيينا فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبت على رجلي تقبلها وقالت: معذرةً إليك فوالله ما سمعت أحد يغني هذا الصوت عناءك وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها وطرب القوم أفي الحق أن تمسي ولا تذكرينني وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما فردي مصاب القلب أنت قتلته ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما إلى الله أشكو بخلها وسماحتي لها عسل مني وتبذل علقما إلى الله أشكو أنها مادرية وأني لها بالود ما عشت مكرما فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا ثم اندفعت أغني الثالث: هذا محبك مطويٌ على كمده حرى مدامعه تجري على جسده له يد تسأل الرحمن راحته مما جنى ويد أخرى على كبده فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه وسكر القوم. وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه فلما شربنا أقداحاً قال: يا هذا ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك فمن أنت يا مولي ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر فقام وقبل رأسي وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليست هي حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي ووالله لأنزلنهما إليك فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت: جعلت فداءك ابدأ بالأخت قبل الزوجة فعساها هي فبرزت فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه فأقبلوا بهم وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي وأمهرتها عنه عشرين ألفاً فرضيت النكاح. فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام مع أهلك. فأحشمني ما رأيت من كرمه فقلت: بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين. فعجب المأمون من كرم الرجل وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته. ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال: سلام عليكم معشر اللئام. فقالوا: لا والله بل كرام. فثنى رجله وجلس وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين. ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة فألقاها إليه وقال: حياك الله يا مدني فلزمها وأكلها. فقال له: شؤم عليك يا مدني أتأكل التحيات قال: إي والله والزاكيات الطيبات كنت آكلها. وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه: نعم النديم نديم لا يكلفني ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج يكفيه لونان من كشك ومن عدس ولو يشاء فزيتون بطسوج وقال طفيلي في نفسه: نحن قوم إذا دعينا أجبنا ومتى ننس يدعنا التطفيل ونقل علنا دعينا فغبنا وأتانا فلم يجدنا الرسول وقال آخر وأتى طعاماً لم يدع إليه فقيل له: من دعاك فأنشأ: دعوت نفسي حين لم تدعني فالحمد لي لا لك في الدعوة وكان ذا أحسن من موعد مخلفه يدعو إلى الجفوة ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط فقال له: من أرسل لك فأنشأ: أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم إن المحب إذا ما لم يزر زارا فقال له القبطي: زر زارا ليس ندري من هو اخرج من بيتي. ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية فظنهم يدعون إلى وليمة فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله لست والله منهم وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم. فقال: ليس هذا مما ينجيك مني اضربوا عنقه. فقال: أصلحك الله إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة. فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه فأخبروه أنه طفيلي معروف فخلى سبيله. وقال طفيلي: ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً وخيلاً من البرني فرسانها الزبد فأطلب فيما بينهن شهادةً بموت كريم لا يشق له لحد وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به. قالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود لعلك تعود. اصطحب شيخ وحدث من الأعراب فكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق ويتضور الشيخ لقد رابني من جعفر أن جعفراً يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسك الحب لم تبت سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل وقال الحدث: إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر ويزداد حبي إن شبعت تجدداً وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة ويظهر لها التعاشق إلى أن سألته سلفة نصف درهم فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه فقال لها: ما هذا قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك. فقال: اشربيه أنت للطمع فلو انقطع طمعك انقطع فزعي وأنشأ يقول: أخلفي ما شئت وعدي وامنحيني كل صدِّ قد سلا بعدك قلبي فاعشق من شئت بعدي إنني آليت لا أع شق من يعشق نقدي وقيل لأشعب: ما أحسن الغناء قال: نشيش المقلي. قيل له: فما أطيب الزمان قال: إذا كان عندك ما تنفق. وكان أشعب يغني: وكان الحب في القلب فصار الحب في المعده وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة: زرعنا فلما تمم الله زرعنا وأوفى عليه منجل بحصاد بلينا بكوفي حليف مجاعة أضرّ بزرع من دبي وجراد وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل. وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه فنزلوا روضة ووضعوا شراباً فمر بهم طفيلي فتطارح عليهم فقال أبو نواس: ما اسمك قال: أبو الخير. فرحب به وقعد معهم. ثم مرت بهم جارية فسلمت فرد عليها وقال لها: ما اسمك قالت: زانة. قال أبو نواس لأصحابه: اسرقوا الياء من أبي الخير فأعطوها زانة فتكون زانية ويكون أبو الخير أبا الخرء كما هو. ففعلوا. الجاحظ قال: دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي. فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان قال: نعم. قال: فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا. فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس فقعد فيه ثم قال لي: ها هنا عندنا يا أبا عثمان. فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها قال الفلوسكي: تسميه ضيفاً فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف قال: تسميه ضيفاً. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفان قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً ثم تتحكم تحكم صاحب البيت
|